عمود رشيد نيني شوف تشوف

 

رشيد نيني

رشيد نيني (16 أكتوبر 1970 بن سليمان (المغرب)) صحافي مغربي، بدأ حياته عاملا ومهاجرا سريا باسبانيا، ليعود بعد ذلك لبلده الاصلي المغرب حيث اشتغل بالقناة الثانية المغربية، وذلك ببرنامج نوستالجيا, بجانب عمله كصحافي بجريدة الصباح.

في شتنبر 2006، أصبح يترأس تحرير جريدة المساء التي تعد الأكثر شهرة ومبيعا بالمغرب،[1] [2]بعدما لم تقبل جريدة الصباح مقالاته الجريئة.

ابتداءا من سنة 2007، أصبح يتعرض لمضايقات من جوانب عديدة آخرها مطالبته من طرف هيئات قضائية بعد محاكمة جريدته, بتعويض مالي قدره 600 مليون سنتيم مغربي ($ 750000)، إضافة إلى تعرضه لاعتداء بالسلاح الأبيض كاد يودي بحياته.

أصبحت مقالته اليومية تحدث ضجات اعلامية واسعة بالمغرب.

شوف تشوف

"شوف تشوف" ويقابلها باللغة العربية تقريبا (انظر ما ترى) عبارة عن عمود يومي يقوم بكتابته رشيد نيني في الصفحة الأخيرة لجريدة المساء التي يشرف على خطها التحريري، تتضمن المقالة مستجدات الحقل السياسي بالمغرب وأيضا انتقادات شبه يومية للمسؤولين الحكوميين والعسكريين المغاربة مما جعل صاحبها يتعرض لعدة مضايقات[بحاجة لمصدر]، جدير بالذكر أن المقالة بالإضافة إلى صياغتها باللغة العربية الفصحى فهي تضم أيضا مصطلحات بالدارجة المغربية أو العامية.

 

 

اعتقال رشيد نيني

 

 

أمرت النيابة العامة بالدار البيضاء مساء الخميس 28 أبريل 2011 بوضع رشيد نيني رهن الحراسة النظرية في حالة اعتقال على خلفية مقالات ادعت استهداف الفساد الغاشم الذي تتحلى به الجهات المسيرة المغربية والذي وصفها الوكيل العام للملك عبد الله البلغيثي ب" المساس بأمن وسلامة المواطنين". وهي التهمة التي اعتبرها المحامي خالد السفياني ب"قرار سياسي يرمي أصحابه التضييق على الجريدة".[3]

 

مقالات رشيد نيني

المرات التي فاتك أن تشبه فيها نفسك

 

كم مرة فكرت في تحريك رأسك دلالة على الرفض القاطع، ثم أقنعوك بالتراجع وتحريكه دلالة على الخنوع، ومن ذلك الحين وأنت لا تستطيع تفسير سبب الصداع النصفي المزمن الذي تشعر به.
كم مرة فكرت في البكاء، ودفعا لكل تفسير سيئ النية انتهيت إلى أن تشهر أسنانك كلها في ضحكة صفراء وبليدة وبلا معنى.
كم مرة تآمرت على نفسك لصالح الآخرين وضيعت حقوقك كاملة في سبيل أن ينالوا هم حقوقهم، وعوض أن يثنوا عليك ويشكروا لك إيثارك ونبلك، شكروا غيرك.
ولفرط أنانيتهم شكروا أنفسهم أيضا.
كم مرة حلمت بإنقاذ هذا العالم البائس وانتشاله من الانحطاط وتطهيره من الحثالات التي تقوده إلى المزيد من القذارة، وعندما أفقت من حلمك وجدت نفسك عاجزا حتى عن حلق ذقنك وإخراج سطل قمامتك إلى الشارع.
كم مرة فكرت في فتح نافذة غرفتك ثم القفز عبرها نحو الفراغ، وعندما تفكر مليا في هذا الخلاص تنتهي دائما إلى أن نافذتك توجد في الطابق السفلي، وأنك حتى وإن قفزت عبرها فلن تصاب سوى بالخجل عندما ستجد نفسك مرميا على قارعة الطريق أمام الناس حيا ترزق بجرح سخيف في الذراع أو جرحين على الأكثر.
كم مرة غلبك النوم فنمت دون أن تغير ثيابك، وكم مرة غلبك جبنك فغيرت جلدك حتى دون حاجة إلى النوم.
كم مرة صفقت بحرارة وأنت تود في أعماقك أن تبصق بلا توقف، كم صافحت بمودة بيدك اليمنى ويسراك تحن إلى الصفع واللكم.
كم مرة كان ضروريا أن تكذب كذبات أقل بياضا من العادة، فقط لكي ترضي رؤساءك، وكم مرة ستتحمل الأكاذيب السوداء للغاية التي يطلقها رؤساؤك كلما تعلق الأمر بترقيتك من الحضيض، حيث يقف سلمك الإداري المكسور منذ الأزل.
كم مرة تصاغرت أمام الآخرين لتشعرهم بقيمتهم التافهة، وكم مرة أصروا على أن تبقى صغيرا إلى الأبد في أعينهم رغم أنك أكبر من قاماتهم جميعا.
كم مرة كنت مضطرا إلى تحمل نفاقهم ودعاباتهم ومجاملاتهم التي ليس أثقل منها سوى دمائهم السخيفة.
كم مرة هجرك النوم بسبب كلمة رديئة، وكم قرنا غمرتك السعادة بسبب كلمة جميلة.
كم مرة خرجت في مظاهرة صاخبة تسير في رأسك، وعندما أردت أن تعود وجدت أنك ضيعت الطريق وأنك لم تخرج إلى أي مكان بقدر ما خرجت عن طورك، ووجدت أنك تركض وحيدا في زقاق خلفي بلا شعارات، بلا هتافات، وحتى القطط الضالة لا تلتفت إليك.
كم مرة سافرت بعيدا وأنت لم تبرح قط طاولتك في المقهى، وشاهدت المآثر والساحات، وبمجرد ما لمحت بين الجموع وجوها تشبه وجوه الدائنين هربت عائدا إلى رشدك، ولم يبق عالقا بذاكرتك من كل تلك المآثر والساحات غير تلك الوجوه الكالحة التي تترصد خطواتك.
كم مرة عاقبوك وأنت بعد صغير بسبب الكذب، وقالوا لك إن كثرة الكذب تطيل الأنف، وعندما كبرت وجدت الجميع حولك يكذب ولم تشاهد أنفا طويلا واحدا بقدر ما شاهدت ألسنة أكثر طولا من أعمار التماسيح.
كم مرة ثرثروا هم وأصخت السمع أنت، كم مرة صرخوا هم وارتجفت أنت، وكم مرة ضربوا الأرض بأقدامهم الغاضبة فقفزت أنت من مكان إلى مكان.
كم مرة يجب أن تكون الصامت الكبير والخائف الكبير والمغفل الأكبر.
كم مرة فكرت في إشعال النار في ثياب كل بنات أفكارك ثم اللجوء إلى أقرب مصح عقلي، لكنك في آخر لحظة عدلت عن جريمتك، رحمة بالجميلات من أفكارك.
كم مرة نزلت إلى البحر لتسبح، ورغم أنك لا تجيد السباحة فإنك لم تغرق قط، وكم مرة غرقت فوق اليابسة في ثيابك من فرط الخجل بمجرد ما تسمع مجاملة صغيرة من فم أحدهم.
كم مرة تدربت على الوقوف أمام الجماهير الغاضبة، كما يفعل زعماء النقابات غداة الإضرابات العامة، ممسكا بمكنسة مكان المايكروفون، وشرعت تخطب فيهم بحماس، ولفرط حماسك لم تنتبه إلا وكل النفايات تقف ضدك، ليس بسبب حماستك ولكن بسبب المكنسة التي في قبضتك.
كم مرة أوقفوك في الشارع العام بدعوى تفقد هويتك، فأنت بسبب كل الكوارث التي مرت بك أصبحت لديك سحنة أي هارب من عدالة، وعندما ينتهون من تقليب أوراقك، وبعض مواجعك، ويصرفونك سالما إلى بيتك، تبدأ أنت في داخلك حملة واسعة لتفقد كرامتك، فلا تمنح نفسك السراح حتى تتأكد من أن المياه القليلة التي في وجهك لم تتسخ بعد وأن جذع الشجرة العتيقة التي تسند كبرياءك لم ينح قط.
كم مرة حاولت إخراج أسرارك الدفينة إلى الشمس فانتهيت بإخراج ضغائنك أيضا، وبسبب سوادها القاتم مر النهار غائما عن آخره، وربما أمطرت في نهايته.
كم مرة فكرت في قذف التلفزيون بزوج حذاء، لولا معرفتك الأكيدة بأن راتبك الهزيل لا يسمح بشراء الجرائد بانتظام فبالأحرى شراء تلفزيون كل يوم.
كم مرة حذروك من الخوض في أمور السياسة وعددوا أمامك الضحايا فوق أصابعهم، وعندما لم تكفهم أصابعهم صاروا يكملون العد على رؤوس العصي، ودون أن تنتظر نهاية الإحصاء فهمت المقصود من استبدال الأصابع بالعصي وانقطعت عن تعاطي السياسة وصرت تتعاطى الحياة ككل الناس.
كم مرة أقنعوك بالخروج من عزلتك وكسر الحواجز التي بينك وبين جيرانك. وعندما خرجت من عزلتك لم يرد أحد أن يستضيفك إلى عزلته، وبقيت مشردا بدون مأوى تهرب إليه مشاعرك الهشة.
كم مرة استدرجوك إلى الحديث عن ذكرياتك الحميمية، وعندما حكيت لهم عن كل شيء أليم وقذر مر بك، لم يفهموا سبب حرصك على ذكريات من هذا النوع، كم مرة يجب أن تشرح لهم أن الذي لم يعش طفولة بائسة مثلك لا يستحق أن يسمع حكايتك، وأن رأسا خاليا من آثار الجراحات وإبر الجراحين وخيوطهم لهو رأس جدير برف في متحف وليس أبدا فوق كتفي إنسان يدعي أنه كان طفلا في يوم من الأيام.
كم مرة تذكرت عيد ميلادك بعد فوات الأوان، فأحسست بالبهجة لأنك لم تكن مضطرا إلى إطفاء الشموع التي بعدد سنواتك، ولم تكن مضطرا إلى الإمساك بالسكين وتقطيع الكعكة إلى أطراف بعدد ضيوفك الذين سيأكلون ويشربون في صحتك ثم يغادرون بعد أن يتركوك رأسا لرأس أمام العام الجديد الذي سينطحك مثل ثور هائج وسيتقدم بك خطوة أخرى نحو حافة العمر السحيقة.
كم مرة فكرت في مغادرة الوطن بحثا عن وطن آخر أقل قسوة، وعندما جمعت حقائبك وصرت على استعداد لمبارزة الحنين والغربة، انتهيت إلى أن حربك لا توجد في أي مكان آخر بعيدا عن موطنك، وبقيت هنا إلى الأبد، مهزوما لكنك تقاوم بشرف.
كم مرة عذبوك بشعاراتهم التي لا تتحقق أبدا، وأتعبوك بوعودهم المهدورة مثل دماء، وكم قتلوا فيك الرغبة في الحب والحياة، ولكنك وكأي نبتة صبار، تستطيع أن تكبر وتعيش ولو في صحراء قاحلة. فكبرت وعشت شائكا وحزينا ومليئا بالكبرياء.
كم مرة، إذن، يا صديقي يجب أن تنحني ولا تتحول إلى قنطرة
كم مرة يجب أن تقف ولا تتحول إلى يافطة
أن تجلس ولا تتحول إلى أريكة
أن تتكلم فتقول أخيرا شيئا يستحق الانتباه
...

رسائل من الماضي

 

كلما جاء الصيف وبدأت قوافل المهاجرين العائدين من وراء البحر تصل إلى أرض الوطن، إلا وعادت بي الذاكرة ثلاثين سنة إلى الوراء.
هؤلاء المغاربة الطيبون، الذين يأتون مرة في السنة لتفقد أماكن ولادتهم وزيارة أهلهم وأحبابهم وشم رائحة تراب بلداتهم البعيدة، يثيرون في داخلي ذكريات عذبة تقذف بي نحو سنوات الطفولة البعيدة.
أتذكر جيراننا الذين يعودون بسياراتهم المحملة بالهدايا والحقائب المربوطة إلى الدراجات الهوائية. أتذكر على الخصوص جارتنا التي كانت تظل العام كله بانتظار إخوانها الذين يأتون في الصيف من فرنسا لكي يملؤوا عليها البيت الفارغ، وكيف كان نصيبنا من تلك الزيارات السنوية يكون دائما على شكل علب شاي صيني وأكياس من الحناء والقرنفل وقطع من صابون مارسيليا.
منذ أن كان عمري لا يتجاوز العقد الأول، فكرت فيها كثيرا لساعات طوال قبل أن أنام تلك الليالي البائسة، في هذا العالم الذي يوجد وراء البحر والذي يأتي منه كل هؤلاء المهاجرين.
ولسبب غامض تخيلت دائما هذا العالم على هيئة مدينة ألعاب عملاقة يمكن لطفل فقير مثلي أن يعثر فيها على دراجة هوائية مثل أبناء المهاجرين الذين يصلون مع الصيف محملين بكل تلك الدراجات الجميلة.
أحببت ذلك العالم الغامض، لأنني كل مرة كنت أكتب فيها رسالة لجارتنا لكي ترسلها إلى إحدى ضواحي باريس كنت أعود إلى البيت بهدية صغيرة. جارتنا كانت امرأة طيبة ككل أرملة، عندما كانت تصلها رسالة من أحد إخوانها بباريس كانت دائما تبعث في طلبي.
وكمترجم صغير وغير محلف، أمسك بالرسالة ذات المظروف الأبيض والطوابع البريدية الصغيرة حيث وجه سيدة باسمة اعتقدت دائما أنها السيدة فرنسا شخصيا. أفتح الرسالة بأدب ثم أطالعها بصوت مسموع حتى يمضي الحنين الحارق الذي في الرسالة مباشرة إلى قلب جارتنا الطيبة دونما وساطة من قلبي الصغير. بعد تلاوة الرسالة، تمنحني الجارة ورقة وقلما وتطلب مني أن أكتب فوقها طلباتها الملحة وسلامها الحار وأشواقها إلى إخوانها. كانت تلك الرسائل أول عهدي بالكتابة، بل إنني أعتقد أنني أصبت بلوثة الكتابة منذ ذلك الوقت بالذات.
عندما أنهي مهمتي تمنحني الجارة الطيبة حبة ليمون ويدعو لي أبوها بالنجاح في امتحان الشهادة الابتدائية وتقبلني أمها العجوز قبلتين إكراما لنجابتي. كانوا عائلة صغيرة بالكاد وكنا نسكن بجانبهم، ولم يكن بيتهم سوى تكملة لبيتنا وامتداد له.
في الصيف، عندما يصل إخوة الجارة محملين بسجادهم الثقيل وأواني الطبخ المستعملة وركام من الأحذية التي لا أول لها ولا آخر، تذهب أمي لتبارك وصولهم. وعندما تهم بالعودة تمنحها المرأة الطيبة قارورة كبيرة من العطر تكفي ليستحم بها كل أفراد العائلة، وصندوقا صغيرا من الشاي الصيني وقطعة صابون وحزمة من أعواد الند ذات الرائحة الزكية.
كنت أغضب وأعلن الحداد أسبوعا كاملا من أجل أن ترضخ الأم لطلبي وتمنحني قارورة العطر التي تحمل رسما لسيدة تضع قبعة كبيرة. لا أعرف لماذا كنت أفضل هذه الهدية بالذات، لكنني ما إن كنت أحصل عليها وأدسها تحت ثيابي حتى أنساها، إلى أن تمر الأسابيع فأصادف القارورة مرمية في الحمام، فأعرف أن الوالد أهرقها خلال وقفاته الصباحية الطويلة لحلق ذقنه، فأغضب من جديد بانتظار هدايا الصيف المقبل.
كان أحد إخوان المرأة الطيبة متزوجا من فرنسية، وكانت له بنت تصغرني بسنة أو سنتين، وكنا بحكم السن والجوار نلعب سوية. كانت هي تملك دراجة هوائية تركبها وتدور حولي مثل زوبعة جميلة، فيما أنا لم أكن أملك غير شاحنة مضحكة مصنوعة من الورق المقوى وبعض الأسلاك الرفيعة التي عثرت عليها قرب محلات الحدادة. لم أكن أرى الطفلة، لم أكن أرى ثيابها الزاهية ولا تسريحة شعرها الغلامية، لم أكن أسمع كلامها الذي لا أفهم نصفه ولا قهقهاتها المدللة. كنت لا أرى سوى الدراجة، أتفحص المقود البراق الذي ينتهي بمقبضين لينين بشكل ساحر. أتأمل العجلة الأمامية بمولد نورها الذي يدور رأسه الأسود فيولد الضوء، وأتمنى أن تترجل الطفلة النزقة وتمنحني جولة فوق دراجتها.
أتمنى أن أضغط على المكبح الخلفي والأمامي معا لأثير الغبار حولي، أن أسقط حتى، ويسيل الدم من جرح في ذراعي.
أتمنى أن أسوق بسرعة وأن أجعل نور المصباح ينير العتمة التي تخيم على طفولتي. لكن شيئا من هذا لم يحدث، وحدها الشيطانة الصغيرة كانت تدور حولي مثل زوبعة جميلة، وأنا خجول بما فيه الكفاية ولا أستطيع أن أطلب منها دراجتها لبعض الوقت. ولم أفهم لماذا تقسو علي فرنسا بهذا الشكل، لماذا لا تبعث إلي مع جيراننا بدراجة صغيرة حتى أمتحن طفولتي بشكل أفضل.
وهكذا كان يمضي صيف ويأتي صيف وأنا أكتب الرسائل الجوابية، والمرأة الطيبة تذرف الدموع وتضيف سلاما كثيرا إلى طلباتها الكثيرة، وفي الأخير تمنحني حبة ليمون، وتقبلني العجوز قبلتين، ويدعو لي أبوها بالنجاح في آخر العام، وحفيدتهما تأتي خلال الصيف الموالي ثم تدور حولي بدراجتها وتعذبني ثلاثة أشهر وتمضي، إلى أن نبت لي شارب فجأة وأدركت أنني كبرت.
انتقل الجيران الطيبون إلى مدينة أخرى، لكن هداياهم ظلت تصل بانتظام مع كل صيف، قارورة العطر العملاقة وأعواد الند وصندوق الشاي الصيني وقطعة صابون مارسيليا.
لم أعد أهتم بقارورة العطر كما في السابق وصرت أهتم أكثر بحفيدتهم التي كبرت مثلي.
وبسبب القمصان الفضفاضة ذات الأعناق المتهدلة التي كان يجلبها المهاجرون من فرنسا، تخيلت أن الفرنسيين كلهم أشخاص سمان، وكانت هذه القمصان تأتي إلى العائلة كهدايا من بعض الأقرباء الذين يجمعهم بنا دم غامض لم يفلح أحد حتى الآن في معرفة أصوله.
كنت أبدو داخل هذه القمصان كدمية رفيعة من القصب. ولم يكن يعفيني منها سوى تطاير أزرارها في مشاجرة أو تآكل أعناقها بسبب كثرة الاستعمال.
لكنني عندما كبرت فهمت أن الفرنسيين ليسوا سمانا إلى هذه الدرجة، وأن القمصان المزعومة لم تكن من فرنسا إطلاقا، بل كان هؤلاء الأقرباء الأوغاد يشترونها بالجملة من أحد أسواق البيضاء قبل أن يصلوا إلينا. ولم يكن يفوتهم أن يشتروا صناديق الشاي وقوارير العطر من الأسواق إياها ثم يقدمون مشترياتهم إلينا كهدايا نادرة تجعلنا نكرم ضيافتهم طوال الصيف.
أخبرني جدي عندما كان حيا أنه اشتغل في فرنسا أيام كان شابا في بدايات القرن الماضي. قبل أن يشحنوه مثل وديعة في السفينة، تفقدوا جيدا أسنانه وحاجبيه ومنخره تم تركوه يمر لأن بنيته كانت قوية.
هناك اشتغل في أحد المناجم بعض الوقت. ولأنه كان ذكيا، وربما كسولا، فضل العودة إلى بلاده واقفا فوق قدميه على العودة ممددا داخل صندوق صقيل بشهادة وفاة تحت رأسه.
كل أقرانه الذين مكثوا في المنجم ماتوا قبله بعشرات السنين، أما هو فقد ظل يتقاضى تقاعده البسيط إلى أن مات وسط أبنائه بسلام وعمره يناهز التسعين عاما.
عاد جدي من فرنسا قبل أن أولد وقبل أن تولد أمي حتى، واشتغل في مصنع للنسيج يديره فرنسي ثري، ثم اشترى دراجة هوائية فرنسية الصنع أيضا. جدي كان يحب دراجته إلى درجة أنه كان يربطها بسلسلة إلى شجرة، كنت أقف أمامها مشدوها ويائسا تماما وأتأمل اليافطة المعلقة أمام المقود: «صنعت في فرنسا» فيزداد كرهي للسلسلة التي تربط الدراجة إلى الشجرة.
كنت دائما أقول إنني عندما سأكبر سأذهب إلى فرنسا هذه وسأتخير لنفسي واحدة من أجمل الدراجات، عندما كبرت فهمت أنني لست بحاجة إلى دراجة هوائية بل إلى دبابة من صنع روسي لكي أدك بها كل هذه الأحلام الرائعة حتى لا تكبر وتشيخ قبل الأوان.
فليس هناك ما هو أقسى من أن تعيش بقية حياتك مع أحلام شاخت ووصلت سن اليأس دون أن تتحقق.

المعاني التي بها نحيا

 

عندما وقف نيرون في شرفة قصره يتمتع برؤية روما وهي تحترق بكامل مجدها، كان يقف إلى جانبه مرافقه الفيلسوف رينون. فسأله نيرون كيف وجد منظر روما وهي تحترق، فقال له الفيلسوف:
«إذا احترقت روما فسيأتي من يعيد بناءها من جديد، وربما أحسن مما كانت عليه، لكن الذي يحز في نفسي هو أنني أعلم أنك فرضت على شعبك تعلم شعر رديء فقتلت فيهم المعاني، وهيهات إذا ماتت المعاني في شعب أن يأتي من يحييها من جديد».
تذكرت هذه الحكاية التاريخية وأنا أتأمل حال المغاربة اليوم. ففهمت أن ما وصلنا إليه من تخلف ليست له أسباب مادية وإنما كل أسبابه مرتبطة بالتربية، أو بقلتها على وجه الدقة، يعني أن مشكلتنا الحالية في المغرب ليست اقتصادية ولا سياسية وإنما هي أخلاقية تربوية بالأساس.
فطيلة ثلاثين سنة من القمع والرعب، قتل المسؤولون عن أمننا الكثير من المعاني في نفوسنا، فقتلوا الوطنية وحولوها إلى مجرد وسام تافه يعلقه بعض عملاء الاستعمار ولاعقي الأحذية في المناسبات الوطنية. أما المقاومون الحقيقيون الذين وهبوا أرواحهم لكي يعيش الوطن حرا فقد أطلقوا أسماء بعضهم على الأزقة. وفي الوقت نفسه، فرقوا أبناءهم على الأزقة نفسها بعد أن أغلقوا في السبيعينات المدرسة التي بناها محمد الخامس ليدرس بها أبناء الشهداء وحولوها إلى مقر لشيء آخر. كان ذلك الإغلاق درسا عميقا لأبناء الشهداء الذين تعلموا، منذ ذلك الوقت الباكر، أن آباءهم ماتوا ربما خطأ في الوقت غير المناسب تماما.
قتلوا النخوة والكرامة في النفوس، وأرادوا تحويلنا إلى مجرد قطعان يسوقونها نحو المراعي طيلة النهار ويعيدونها إلى الحظيرة كل مساء. والنتيجة أنهم نجحوا في تربية أجيال من الخرفان، يكفي أن تقود واحدا منها من قرنيه كي يتبعه الآخرون مهرولين، ولا يهم إن كانوا يتجهون بأٍرجلهم نحو المجزرة، فالاحتجاج هو آخر ما تتعلمه الخرفان. وغالبا ما يحدث عندما يقرب الجزار السكين من العنق، أي بعد فوات الأوان.
قتلوا الحب في النفوس، وتعهدوا بالرعاية حبا واحدا لا شريك له هو حب المال، حتى أصبحنا بسبب المال نبيع أعراض بناتنا ونسائنا في أسواق النخاسة. وكم يشعر المرء بالغثيان عندما يقرأ في الصحافة تحقيقات تتحدث عن طرد شرطة البحرين والإمارات والسعودية لفتيات مغربيات يحترفن الدعارة في خمارات بلدان الخليج والشام.
ماذا تصنع وزارة الخارجية لتوقف هذه الكارثة الوطنية؟ والله لو كانت لدى الوزير الأول غيرة على كرامة الوطن وأبنائه لقدم استقالته مباشرة بعد نشر هذه التحقيقات المخجلة.
ولكن يبدو أن لا حياة لمن تنادي. وهذا طبعا نوع من الموت يندرج في باب موت الضمير الذي لا يرجى معه شفاء والعياذ بالله.
لذلك أقول دائما إن أزمتنا الحقيقية هي أزمة ضمير وأخلاق قبل أن تكون أزمة اقتصاد وسياسة. الاقتصاد عندنا لا أخلاق له. لذلك تجد وزارة المالية تعطي الحق لشركات قروض الاستهلاك لكي تقتطع ديونها مباشرة من حسابات زبنائها بفوائد متوحشة، وترخص لشركات مشبوهة وممنوعة عالميا بالعمل في المغرب وابتزاز جيوب الناس كشركات البيع الهرمي التي فتحت فروعا لها في كامل التراب المغربي وخربت بيوت المئات من المغاربة بعقودها المبنية على التحايل والكذب. السياسة عندنا لا أخلاق لها، وأغلب السياسيين يعطون نموذجا مسطحا وانتهازيا و متسلطا جدا لرجل السياسة، حولوا أحزابهم إلى مقاولات وشركات غير محدودة يستثمرون فيها أسهم النضال ويتاجرون بالقتلى والجثث المفقودة للحصول على المزيد من المساهمين بين الأحياء. يوهموننا بأنهم يصالحوننا مع الماضي، في الوقت الذي يفعلون فيه كل شيء لمخاصمتنا بشدة مع الحاضر.
حتى التربية والتعليم انعدمت فيهما الأخلاق وأصبحا مجالا للمزيدات النقابية الرخيصة، وأصبح مستقبل الأجيال مجرد ورقة ضغط في أيدي محتالين حزبيين، همهم الوحيد هو تسلق السلالم الإدارية حتى ولو كان ذلك فوق ظهور تلاميذ أبرياء.
ولو أن نيرون يعود إلى الحياة وينظر عبر شرفة قصره إلى المغرب كيف تحترق فيه أعصاب المواطنين ويسأل صديقه الفليسوف عن رأيه في المنظر لأجابه:
- «كم هم مشغولون بالبناء والتشييد وترميم الحيطان والأسوار، وفي الوقت ذاته يحطمون أهم جدار واقٍ يضمن أمن الوطن».
ولا بد أن نيرون سينظر إليه وسيسأله:
- عن أي جدار واقٍ تتحدث؟
- «جدار المعاني يا سيدي، الشعب لا يحيا فقط بالخبز والماء وإنما أيضا بالمعاني. وأنا أعلم أنك تعرف أن وزراءك ورجال بلاطك فرضوا على الناس تربية رديئة فقد معها المواطنون الكثير من المعاني. لقد كرهوهم في أنفسهم وكرهوهم في وطنهم وكرهوهم حتى في الهواء الذي يتنفسونه حتى أصبحت حياتهم في وطنهم بلا معنى. ولذلك تراهم يجمعون حقائبهم ويرحلون. الحيطان والأسوار والطرق إن تهدمت سيأتي من يعيد بناءها من جديد، أما المعاني إذا ماتت في نفوس الناس فهيهات أن يأتي من يحييها ذات يوم من جديد».
ولعل أبلغ ما يلخص المعنى الذي نقصد إليه ما قاله محمود درويش في إحدى قصائده الرائعة حول موت المدن وخلود المعاني:
نيرون مات ولم تمت روما
بعينيها تقاتل
وحبوب سنبلة تموت
فتملأ الوادي سنابل...